رأي حر

اقتصاد الريف واقتصاد المدينة (بقلم عمر سعيد)

حكي تنور
اقتصاد الريف واقتصاد المدينة

كان للتنور ضواح، لا تقل عن وسطه فعلاً وتأثراً.
كاللمة حول خلقينة السلق ( سلق القمح )،
واللمة في موسم مربى البندورة، والمشمش، وفرك الكشك، ومكدوس الباذنجان.
كانت لمات حكي تنور بامتياز.
يتبادل الملتمون فيها الأخبار والاتهامات، وسوء الظن ونشر العرض، وغيرها من النوادر التي تطارد المتهم عقوداً، وأحياناً قروناً.

أذكر أن غالبية سكان قريتي كانوا يدينون سكان المدينة في معظم قصصهم وأحاديثهم.

حتى أني صرت أشعر بالنفور من أي مديني كنت ألمحه.

كان رب العائلة القروي يشتري كل احتياجاته بالجملة، وليس بالمفرق.
فيربي ( يقطع) ثور، لأجل مونة اللحمة، ويطبخ مربى البندورة بالأرطال، وتخبز زوجته لشهر، وهكذا.

ولكم رأيت في بيوت أهلنا خبزاً قد تعفن وأتلفوه، ومربى قد فسد، ورموه، وقاورما قد قطنت( فسدت)، وأطعموها للكلاب والقطط.

كل هذا كان يحدث لأن ابن المدينة في قناعاتهم جوعان، وابن القرية وحده الشبعان.
ولكم سمعتهم يرددون:
” فلاح مكتفي، سلطان مختفي”

دخلت المدينة بعمر خمسة عشر عام.
وعشت على السندويتش، والمونة الأسبوعية، ليس أكثر. .
ولأني دخلتها وحدي، فقد كنت أعود من السوق بحبتي بندورة، وحبتي تفاح، وربطة خبز، وكيلو سكر. وهكذا.
أمس أثناء عودتي من سوق الخضار بثلاث برتقالات وباذنجانتين، تذكرت تلك القصص، وقلت في نفسي:
– ليت والدي يرجع ليرى ما أحمله.

ترى هل كان يعلم والدي الفرق بين اقتصاد المديني واقتصاد الريفي؟!

لقد اعتاد الريفي أن يكثر الشراء، لأنه كان يقطع الطريق إلى بيته سيراً على الأقدام، والكل يراقب ما يحمله، وبالتالي هو يريد أن يؤكد شبعه، إن كان ابن شبعان، واكتفاءه إن كان يشعر بالمنافسة، وبطره إن كان متهماً بالجوع.
وكان يظل مطارداً بفكرة
” أنه زمط بما اشتراه”، فقد لا يجد مالاً لشرائه غداً، أو قد يرتفع سعره.

وعليه فاقتصاد الريف حكي تنور، ينتج عن الغيرة والتأثر والتقليد.

يشتري ابن المدينة حاجته اليومية، لأن المدينة منحته الخصوصية.
فلا شأن لمن حوله في مصروفه ومأكله ومشربه، أضف إليها أن الحاجات متوفره في المدينة بشكل يومي وطازجة.
فالمدينة استمرار، وتواصل، وإنتاج دائم.
فيما لا زالت القرية موسم مؤونة تتسبب به وفرة الصيف، تليه قطيعة شتوية تتسبب بها شحة مداخيل الشتاء.

والوفرة في الريف وفرة بطن ليست أكثر، هذا إن اقرينا بها.
لكنها في المدينة وفرة خدمات و وعي ومتابعة لكل جديد محلياً وعالمياً.
وهي وفرة ثقافة بكل وسائل توفير المعلومة والمعرفة لطالبها، ووفرة المشاركة في مشروع بناء المجتمع والدولة.
وهي وفرة وجوه وأزياء وأشكال وألوان، إنها وفرة تنوع واختلاف، صقلت الشخصية المدينية بكل ما منحتها من دماثة، وروية، واقرار بشراكة سكان العمارة في كل شيء.

فيما لا زالت القرية عائلة تقرر وجه المجتمع السياسي فيها، وعائلة تقرر الزوجة، ومدرسة التلميذ وجامعته، ووظيفته، ونوع عفش البيت ولونه، والسيارة والكثير من الاشياء غير المهمة.

ولا زالت القرية تتحدث بصوت عال جداً، وإن لم يسمعها أحد.
ولا زالت القرية لم تتقن وحتى اليوم مسألة جر المياه إلى بيوتها، ولا التعاون في حل مشكلة بسيطة.

لكن حكي التنور يؤكد على أصالة رغيفه، مقابل بندقة رغيف المدينة، وعلى أن مربى البندورة البيتي المدعوس بأقدام الناس والرجال والأطفال أشهى من ذاك الذي تفرمه آلة الستانلس.
ويصر على أن ليلى بنت ضيعتنا أفضل بكثير من ليلى بنت شارع ومحلة وعمارة رقم كذا في المدينة.
فليلى الفلاحة لا حاجة لها بالجريدة ولا باللغة ولا بمجلات الموضة، ويكفي أن يبرز ثدياها لتعلن خطوبتها، فالزواج في القرية مجرد استعداد جسدي، لا قيمة للاستعدادات العقلية والنفسية فيه، على قاعدة:
” ما حدا خلق معلم ”
وتكفيها جلسة واحدة على التنور، أو في تلك اللمات، لتزودها بكل أخبار أترابها وزلاتهن وأسرارهن، وطرق الرد في المناكفات مع بيت الإحمى.
وسيظل اقتصاد المديني مدان بيننا في الريف، لأن المحاكمات العقلية ينتجها حكي التنور.

وحكي التنور موسوعة تجدد نفسها بنفسها، وتكاد تفرض حضورها في أندية المدينة وصالوناتها ومقاهيها.
فقد استبدل كثير من أبناء الريف أرضهم في القرية ” ببلاطتين في عمارة ” كما كان يقول أبي.
ودخلوا المدينة دون أن يخلعوا من رؤوسهم حكي التنور الذي فروا منه إليها.
عمر سعيد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى