رأي حر

حكي تنور .. تلميع الطناجر، وتساؤلات وجودية (بقلم عمر سعيد)

النساء في قريتي كن يتحوقن بعد انتهاء الخبازة (المرأة التي تخبز لبيتها) حول فوهة التنور، وقد تعددت مقاصدهن، وإن ضاق مكان اجتماعهن.
وقد طمرت واحدة في ما تبقى من جمار بضع حبات بطاطا، وأخرى طمرت رأس شمندر، وثالثة لصقت على جدران التنور فطائر الكشك بالبطاطا، ورابعة أحضرت طناجرها، لتقوم بتلميعها بالصفوة ( الرماد الحار، فقد كان يستخدم لتلميع المواعين)

ليستمر حكي التنور كالعادة، فلا تُعرف بداياته، كما لا تعرف نهاياته.
فكثرة تداخل الحكايا والقصص، وأخبار القرية، والمحاكمات التي تشمل العلاقات العاطفية، والغرامية، وأخبار المغتربين، وجرائم القتل، وحوادث القضاء والقدر، وغيرها، تجعل الحكي مستمر من خَبزة إلى خَبزة.

وتوقفاً عند حوادث القضاء والقدر، تحضرني مجموعة تساؤلات وجودية؛ نبتت بذورها في جمجمتي تحت سقف تنور القرية، لكنها رغم السفر والغربة وآلاف الكتب التي قرأتها، تمكنتْ من البقاء حاضرة في وعي ولاوعي.
ذلك أن الخمسين سنة التي مشيتها من بيتنا في وسط القرية إلى عشرات عواصم العالم، ذهاباً وإياباً، وقد قطعت فيها ملايين الكيلومترات براً وبحراً وجواً، لم تكشف لي عن أي تغير عميق، حصل في مجتمعاتنا التي لا زال حكي التنور يدور فيها حول : من هي المرأة الأشطر في تلميع طنجرتها!
وهي وإلى اليوم، وإن وقفت خلف مجلى غرانيت، تستخدم فيري وطنجرة تيفال، إلا أن قدميها؛ لا زالتا مطمورتين في رماد ووحول تلك التنانير؛ التي نأبى أن نهدها في عقولنا، لتظل تساؤلاتي الوجودية مشروعة، ما دام لم يصغ أحد إليها:
١- لم لا يموت حكام الدول وقادتها الكبار، بحوادث سير ، أو برصاصة طائشة، أو بسقوط عن مرتفع، أو غرقاً، أو بضربة سكين؟!
ولأعِدْ السؤال بصيغة أوضح وأدق :
لم لا يموت حكام الدول وقادتها الكبار قضاء وقدراً؟!

٢- هل إن القضاء والقدر مرتبطان بالفوضى، والعجز والخلل السلوكي والتربية العنيفة؟!

٣- أم أن القضاء والقدر حصيلة موروث فكري شعبي، راكمته التبريرات الشعبوية لدى من يتخلون عن مسؤولياتهم، ولئلا يتحملوا ما صنعت أيديهم؟!

من وجهة نظري أنا: إن القضاء والقدر هما نتاج خطأ في لحظة معينة، إثر ظروف إهمال أو تهور أو استهتار أو تعمد اللعب على حافة المغامرات والمخاطر.
ففي لعبة الروليت الروسية، يترك المغامر في بكرة التذخير طلقة واحدة، مقابل خمس حجر فارغة.
وهكذا سيكون احتمال انفجار الطلقة عند إدارة البكرة ١/٥، وفقاً لحسابات السذج في مجتمعاتنا، لكنها وبالمنطق العلمي تحتاج إلى عملية حسابية معقدة جدا.
واحتمالية انفجار الطلقة، أو تخطيها موقع الزناد، لن تثبت صحة نظرية القضاء والقدر، بل ستثبت أن الخطأ هو الذي تحكم بظرف ما، أسميناه في حكي تنورنا “قضاءً وقدراً”.

إذن, إن لفظي قضاء وقدر هما مفتاحا إقرار بوجود أخطاء بشرية بنسبة عالية جداً في بيئات غير منضبطة، ترفض تحمل مسؤوليات أخطائها.

أمام بيئات قيادات السلطة والحكم في مجتمعاتنا، بنسبة حوادث وأخطاء، تؤثر على حياتهم، تكاد تكون صفراً، فلا مجال لحدوثها مهما كلف الثمن.

فتكثر نسب الموت قضاء وقدراً في مجتمعات؛ ترفض تحمل وزر أعمالها، كما ترفض التعلم من أخطاء الأمس، وتصر على عدم التغير.

لتندر إلى مستوى الاستحالة في أماكن مكلفة وجداً، في حال حصولها.
فالأمن والتحكم بإدارة السلوك والرقابة والعيش والتنقل، كل ذلك يجعل الحاكم؛ لا يموت قضاء وقدراً، بل يميت الشعب وهو ينتظر أن يعيه المرض والعمر.
مقابل موت آلاف بإهمال أسرهم لمسائل التيقظ والتنبه لأطفالهم وأبنائهم، الذين يلهون في أماكن تجوبها سيارات مسرعة، وأماكن خطرة غير آمنة، ومحيط تتوفر فيه مواد سامة، أو في ملاعب التهور، وبأكثر من شكل.

في النهاية، إن القضاء والقدر لا يمكن أن يكونا أمراً غيبياً هنا، ليكونا أمراً دنيوياً هناك.
والقاعدة العقلية تدحض كل ما أنتجته العقليات الشعبية الساذجة في الحديث : “إعقل وتوكل” لمنطقية الشكل والمضمون والنتائج فيه.

ويبقى حكي التنور هو المسؤول الأول والأخير عن بناء قواعد التفكير في مجتمعات تسمم لأطفالها قضاء وقدراً.
مجتمعات تقتل صغيراً قاد سيارة بسرعة، وتسبب بحادث قضاء وقدراً.
مجتمعات تردي بطلقة عشوائية نفساً لا قيمة لها أمام أفراح مطلقي النار وأتراحهم بلا محاسبة.

لتظل تلك الطنجرة التي لن ينتهي التباهي بتلميعها على لسان جاهلة فضلت قفا طنجرتها على عقل طفلها.
فبدل أن تقرأ له، وتعلمه، تقضي أيامها تطبخ له، وتلمع طنجرتها وأخطاءه، ثم تتغضب عليه لشدة تعبها.

وإذا مات، كان القضاء والقدر هما المسؤولان عن موته، واحتراق طبخة أمه، و فكس جلسات حكي تنورها.
وهكذا فإن كل هذا التردي من حولنا، يكون قد سببه القضاء والقدر.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى