رأي حر

ليست الكلمة للتّصفيق/ الروائي عمر سعيد

ليست الكلمة للتّصفيق.
وإلى اليوم لا زلنا نردّد في: في “البدء كانت الكلمة”
دون أن نحيط بالإرادة الّتي جعلتها بداية كلّ شيء.
لكنّها البداية وبلا أدنى شكّ هي النّهاية، فالّذي يبدأ يُنهي.

ذات يوم ونتيجة لجرأة تجاوزتْ بي الوقاحة، وقاحة جعلتني أحطّم نفسي وبعضًا ممّن كانوا معي وحولي؛ صُمْتُ عن الكلام أربعينًا ويومين.

كان خلف ذلك الصّوم كلمة. كلمة فتكت بكلامي لاثنين وأربعين يومًا.
لم أعتزل النّاس، كنت أجالسهم، ولم أكن أصغي أو أستمع.
كنت أؤدّب نفسي، وأربّيها من جديد.
لم تكن فترة عاديّة. كان صومًا مليئًا بالتّساؤلات، والغوص، والألم.
كنت يومها في النّصف الثّاني من عقدي الثّالث، في الخامسة والعشرين من عمري.

كنت قد كتبت روايتي الأولى:
“لم تكن إيمّوزار لكنّها كانت” رواية جعلتني أعي صنيع الكلمة في الإنسان.
طوال فترة الصّوم لم أكتب، ولم أقرأ.
جافيت الكلمة، والنّص، والصّوت، والكتاب.
لكنّي ما جفيت فعلها جميعًا.
أدركت يومها ماهيّة الوجدان، والحزن، والدّمع، والوحدة، وإساءات الكلمات، أدركتها جميعها بلا كلمات
مكّنني ذلك الصّوم من قرارات كنت أحتاجها.
قرارات لم تمكّنيها الكلمة. كنت قد جربت الكلّمة في الحبّ والمسرح والسّلوك اليومي، فخذلتني.
لم تكن معرفتي بأهداف الكلمة قد نضجت واتّضحت بعد.
وحده الصّوم علّمني أنّ الكلمة ليست للتّصفيق.

كان التّصفيق يغريني جدًا، يجعلني أطول ممّا كنت عليه، لا بل كنت أبلغ أطوالًا ما بلغتها قبل لحظة التّصفيق، كنت أحسّ أنّ رأسي قد لامس سقف خشبة المسرح، وأنّ كياني قد انفلش ليفيض عن القاعة.
كان التّصفيق دخاني الّذي يخفّف توتّري، وكحولي الّتي تأخذني إلى عوالم أبعد، وطعامي الّذي ينهض بطيني الّناطق.
خرجت من صومي، وعدت إلى صوتي وكلماتي بزخم لم أعهده فيّ من قبل.

كتبت، ومثلت، وغنّيت، وألقيت الخطب، وقد ألقيت خلفي كلّ صفعات الأكف الّتي كانت تنهال على مؤخّرتي، وتدفعني إلى مزيد من القول، يعود علي بمزيد من الصّفع.
عدت إلى الكلمة الّتي نأيت بها عن التّصفيق.
أكتشفت في كلّ ذلك أنّ الكلمة تدفع بالمتلقي إلى التّصفيق، وأن التّصفيق يدفع بالكلمة إلى مَحَاوره، وحقوله.
وذلك أشدّ ما يهدّد الاثنين: الكلمة والمتلقي.

صرت أكتب، وأكتب فقط، ذلك لأنّ مسالك الكتابة ليست كمسارات القول.
فللكلمة المكتوبة حريّتها التي تعتمد على الانتقاء. تنتقي الكمة المكتوبة قارئها، ومتلقّيها، لتقيم فيه، وتنشئ معه فضاءات تبتغيها.
وتخلّيت عن القول لما كان للآذان والعيون وملامح الانفعال من قدرة على المقاطعة، وإن بصمت لا يدركه إلّا القائل، فيوارب مراده إلى ما يليّن الحديث، ويجاري تفاوت المستويات في الحضور، ويحمي ظهر المتحدّث، إذا أدار ظهره للقاء، وقد وارب كثيرًا ممّا يزعج السّامعين.
فالكلمة ليست للأكف، وإن كانت الأكف تتّصل بشكل لصيق بالرّأس.
إنها للوعي، للفكر، للفهم، للإدراك، لليقظة، للنّباهة، ولكلّ ما يسقط عن الإنسان ردّ فعله السطحي.
فتخيلوا معي عالمًا بلا كتابة، وتخيلوا معي إنسانًا بلا كلمة، وحياة بلا كلمة تكون بدايتها.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى