رأي حر

بين الشّعبويّة وسواها في الحكي/ بقلم عمر سعيد

ظهرت الشّعبويّة في روسيا والولايات المتّحدة آواخر القرن التّاسع عشر.

وقد كانت تشير إلى حركة زراعيّة بإيحاءات اشتراكيّة، لتحرير الفلاحين الرّوس حوالي العام ١٨٧٠.
كما انطلقت حركة احتجاجات في الرّيف الأمريكي موجّهة ضدّ البنوك وشركات السّكك الحديديّة في الفترة ذاتها.

فما المقصود بالشّعبويّة؟!
كتب مدير مجلة “كريتيك” فيليب روجيه العام ٢٠١٢:
” إنّ هذه الكلمة في كلّ مكان، لكن من دون تعريف لها”.
ويقول هذا الجامعي لفرانس برس: “اليوم أيضا، لا يزال من الصّعب تحديد هذا المصطلح لأنّه يثير جدلّا ويعني ظواهر في غاية الاختلاف”.

فيما يرى أوليفييه ايهل، خبير الأفكار السّياسيّة في معهد العلوم السّياسيّة في غرونوبل، أنّ صعوبة تحديد معنى الكلمة تكمن في أنّها “ليست مفهومًا”
ويضيف:
“إنّها لا تستخدم للتّوضيح بقدر ما تستخدم للتّنديد”

في أكثر من جلسة تردّد على مسمعي هذا اللّفظ، وعلى شكل إدانة، وتسفيه لمن يقول، ولما يقال.

كنت في جلسة مسائية مع النّائب السّابق أمين وهبي، يوم ردّد استنكارًا لما سمعه من معظم الحاضرين:
“إنّه كلام شعبوي”.
ومن المعروف أنّ أمين وهبي طبيب ينتمي إلى فكر اليسار التّقدمي.
وفي حلقة صار الوقت بعد رحيل عون، والّتي جمعت ملحم الرّياشي، ووضّاح صادق والعوني جورج عطالله، الّذي دفعته الصّفعات المؤلمة لعهدهم إلى اللّجوء إلى الرّد بقوله: “خطاب شعبوي”

كان لا بدّ أن أكتب متسائلاً:
ما غاية الكلمة؟! ما الهدف من الحكي؟! ما هي وظيفة الكتابة؟! لم النّصّ؟؛
أليس من أعظم أهداف الكِتاب أن يصل عدد نسخه المباعة إلى ملايين؟!
ألا يقاس المهرجان النّاجح بعدد المحتشدين فيه، وببلوغ ما طرح فيه مسامع الآلاف المحتشدة؟!
ألن تحقق الجريدة أهدافها إذا تصدّر نصّ كافة المواضيع الّتي يتابعها القراء، فيرفع نسبة مبيعاتها؟!
ألسنا نعتبر أنّ السّهل الممتنع من أجمل الأساليب الّتي يرجو معظم الكتّاب بلوغه؟!
وما المدين في أن يكون الكلام أو النّصّ أو الخطاب على قدر مكنونات النّسبة العظمى من النّاس والعامة خاصة البسطاء والفقراء وذوي التّعليم الأوليّ؟!
إنّ الكلام الّذي يتيبس أثناء تجفيفه من العاطفة على أحبال العقل والمنطق، قد يحقق المطلوب العملاني والمادي، ولكنه سيظل الأجدر بالإدانة وعلى مدى طويل، لأنّ هرمية الوعي تضطرّ المصغي والمتحدّث إلى قواسم مشتركة أوسع بكثير من الحالة الحسابيّة الّتي تتوفّر في الرّياضيات.
فالّذي لا يدرك بالعقل، يدرك بالمشاعر والأحاسيس.
والّذي لا يدرك بالعقل ولا بالأحاسيس والمشاعر، يدرك بكيمياء تبثّها لغة الإشارة والجسد والعيون في المتحدّث.
وأنا من المؤمنين أنّ مهمّة الكلمة الشّعبويّة، والنّصّ الشّعبويّ، أعمق بكثير ممّا يرى أصحاب الإدانة المتعالية، فالحياة ليس جغرافيا النّخب لوحدهم، ولا هي أقاليم المثقّفين الّتي تحول دون دخول النّاس العاديين إليها.
بل إنّ كثيرًا من أولئك الّذين يفتقرون إلى البلاغة، والقدرة على التّعبير، وغيرهم ممّن لا يعرف إلا الصّمت والأنين والبكاء، بحاجة إلى من يتقن الحديث عنهم، فيقول ما يصفّقون له، ويتحدّث بما يثير شهيتهم على الصّفير والصّراخ، ويدفع بالكثير من الثّقل للانزياح عن صدورهم.
لذا أرى أنّ الشّعبويّة تغدو في كثير من المواقع إدانة على أولئك الّذين يرتدون قفازات يصافحون بها عاجزًا عن صياغة جملة تليق بمسامعهم.
أولئك الّذين يبالغون في انفاق الوقت وهم يتأنّقون أمام المرآة والنّصّ، ليظهروا بشكل مقنع أمام الجماهير.

إن المقولة الشّهيرة:
” تحدّث كي أراك”
يؤكدّها بشّار بن برد في:
“والأذن تعشق قبل العين أحيانا”.
كما يثبته قول الشّاعر عمر شبلي:
“والصّوت أحيانًا له عينان”.
كما لم يفقد النّّص المقدّس والقادم إلينا من قرون بعيدة فعله في غالبيّة المصغين إليه، ولم تفقده شعبويّته تأثيره العملي والعاطفي وعظًا وتوظيفًا، رغم كلّ ذلك الاستهلاك اليومي له.
فغاية النّاس أعمق وأبعد من غايات التّنظير الفاقع.
والشّعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة، فلا حاجة لتقطيعه وأوزانه.
فالحبّ هو كلّ ذلك السّائل المتدفّق في سواقي وجداول وأنهار الرّوح ومحيطاتها.
ومها تفاخر بخلاء الجدل في لغتهم وأقوالهم، سيظلّ التّصفيق والصّراخ والصّفير والانفعال بعد أيّ قول وخطبة ونصّ شعبوي أعظم انعكاسات الحياة على حاجتنا لتبادل ما نملك مهما تدنّى سعره ورخص.
فالأثمان الغالية تجعل من بعض السّيّارات أحلامًا كبيرة، لكنّها ليست هي البديل وأبدًا عن حاجات الشّعوب إلى وسائل نقل جماعي رخيص، تقلّهم إلى مقاصدهم.
#عمر_سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى