رأي حر

لم يكن زمن التنور مُضاءً بالكهرباء. (بقلم عمر سعيد)

#حكي_تنور
لم يكن زمن التنور مُضاءً بالكهرباء.
كان الدخان الأسود يعشش في جدرانه، فيزيد حلكتها حلكة.
ولست أجزم أن تلك الحلكة، لم تتسرب إلى لاوعينا المجتمعي، لذا دخلنا في تيه لا يطاق.

لكن جلسات التنور كانت لمة نار.
نار لطالما اشتهرت باسم فاكهة الشتاء، كما يسميها عجائز قرانا.

كانت أرض التنور تراباً، وعلى الرغم من ذلك كان رواده، يخلعون أحذيتهم -التي لم تكن أحذية- خارج بابه.

أما إذا كان المطر قد بللها، فإنهم كانوا يدنونها من أم سليمة ( النار ) وفق تسمية بعض كبار القرية، لتجف.

لم يكن مجتمع التنور مجتمعاً صناعياً، كان مجتمع حكايا، وأساطير مخيلات عاجزة عن كل شيء، إلا عن الكلام.
فإذا ما تمحص المتتبع للمجتمعات الصناعية القديمة، لأدرك الفرق.

ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا؛ تلك التي ما عرفت الحضارة إلا بفضل العرب -كما تقول حكايا التنور- تنعم بالطرقات المعبدة وقنوات الصرف الصحي قبل الميلاد بقرون، والموروثات الرومانية تشهد على ذلك، كالحمامات في تونس.
فإن مجتمعاتنا لا تزال تغوص في طين المستنقعات ووحول الطرقات، ذلك بسبب ما يسمى “غياب المواطنة”

ولو سألت جديّ اللذين لم أعاصر أياً منهما عن المواطنة، لردوا:
” إن الحل يا جدي في تقوى الله”.

وهنا تحضرني قصة حافلة الركاب التي تعطلت في يوم ماطر.
وقد كان ضمن ركابها رجل دين، وميكانيكي.

سارع رجل الدين السائق بالكلام، وأخذ يلح عليه، ليسمي الله، وأن ينقر المفتاح، وبإذن الله ستعمل السيارة.
لكن السائق رد: أخشى أن تفرغ بطاريتها من الطاقة، وندخل في مشكلة أكبر.
فاستنكر رجل الدين كلام السائق، وأصر عليه في ما يطلب.
وكيف نخشى مع الله شيئاً.

ولبساطة السائق فعل ما طلبه منه رجل الدين، حتى بلغ النتيجة التي خمنها.

تدخل الميكانيكي، وطلب من السائق أن يفتح غطاء المحرك، ثم نزل، يلقي نظرة على المحرك.

قام الميكانيكي بتنظيف بعض أسلاك البواجي، والمجموعة الكهربائية التي تبللت بفعل الماء.
ثم صعد السيارة وقد بلله المطر، وقال للسائق: لم يبق أمامنا إلا حل واحد.
فرد السائق: أنجدنا به.
فأجاب: أن ينزل جميع الركاب لدفع الحافلة، فيما تقوم أنت بتعشيقها، إلى ان تشتغل.

طلب السائق من الركاب، أن ينزلوا لدفع السيارة، فنزل الجميع، إلا رجل الدين.
بقي في مقعده، لئلا يبلله المطر.

وراح الميكانيكي يحث الركاب على الدفع بقوة، ويوعز للسائق بما عليه فعله، حتى دارت السيارة.
صعد الركاب السيارة، وسط هرج ومرج رجل الدين, الذي ظل يصر على أنه ما توقف عن الدعاء طوال فترة دفع الركاب للسيارة، وأنه لولا دعاءه لما اشتغلت، مهما فعلوا.

رد الميكانيكي: كان لا بد من تجفيف المجموعة الموصلة للكهرباء، لتقدح شرارة النار التي تولد اشتعال البنزين، وكان لا بد من جهود الركاب الذين دفعوها، لتعويض نقص الطاقة الحاصل في البطارية.
امتعض رجل الدين، وسأل بحدة: وتلك النار من خالقها، أليس الله؟!
ثم راح يشرّح كلام الميكانيكي من هنا وهناك، يريد أن ييثبت للركاب، أن فيه تجديف على قدرة الخالق.

إن حالنا يشبه حال تلك الحافلة التي يحاول الميكانيكي اصلاح أعطالها، وسط تحريض منظري التنانير التي لا تنتهي عليه.

لطالما نتجت نظريات إدارة المجتمعات في قرانا عن خلوات التنانير وجلساتها الدائرية حول فوهة أم سليمة.
تلك النار التي استورد الغرب لها الغاز والنفط من بلادنا، بعد أن مد لها أنابيب لآلاف الكيلومترات، ثم أدخلها إلى بيت كل مواطن نوراً، وماءً حاراً للتدفة، وآلية تمخر باطن الأرض وظهرها وجوها، لتصل به إلى جهته التي يقصدها.

في الوقت الذي لا زلنا نعاني من الظلام، دون أن نتوقف عن التهديد بسعيرها وزمهريرها وقمطريرها العقول، لا لشيء إلا لحمل الفرد على الدخول في الآخرة وهو لم يدخل الأولى رغم مرور ١٤٠٠ سنة على انطلاقة مسيرته.
مدعين أن ذلك الدخول سيحقق فينا المواطنة. دون أن نقتنع ولو لمرة واحدة أن المواطنة علم وفعل وإدارة مقدرات، وخدمات تنتج سلوكاً.
وأن المواطنة يستحيل أن تكون مجرد حكي تنور، كالذي نقوله :
” هم أخذوا ما عنا وطبقوه فتقدموا، وأعطونا ما عندهم وطبقناه فتخلفنا”
فالإنسان يستحيل أن يطبق ما ليس يخرج من روحه وعقله وخبراته.
وهم قد آمنوا بالعلم، ونحن لا زلنا نتوضأ بماء نجمعه من مزراب التنور، ونكسر سم برده بناره الخالدة.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى