تحت المجهر

#حكي_تنور : صناعة العدو الوهمي والتهرب من المسؤولية. (بقلم عمر سعيد)

#حكي_تنور :
صناعة العدو الوهمي والتهرب من المسؤولية.

يحكي رواد التنور من العجائز : أنهم نادراً ما كانوا يلجؤون إلى التنور ليلاً بهدف الخبز، لكثرة الأساطير والقصص حول الجان، إذ أنهم كان يعتقدون، أنها تفضل الإقامة في بيوت النار التاريخية هذه، خاصة وأنها كائنات نارية، وفق ما يزعمون.
علما أني لا أؤمن بمثل هذه الحكايا، وإن كانت قصصها إرث خيالي مدهش.
لكن بعضهم أكد لي، أنهم كانوا إذا اضطروا لاستخدام التنور ليلاً، وضعوا في تجاويف جدرانه الحجرية شموعاً، وسُرُجاً، والميسور منهم كان يحضر لوكس.
واللوكس هو آلة غازية تنتج ضوءاً نتيجة اشتعال الغاز داخل جيب حريري، صغير يتخذ شكل حبة الكيوي إذا احترق، وسطع، ويسمى (قميص اللوكس)

ولكم ضُربَ المثلُ بهشاشة قميص اللوكس.
ولكم ذكرتني العقلية العربية الشعبية لشدة خيالها وهشاشتها بقميص اللوكس.
فعلى الرغم من قدرة هذه العقلية على السطوع في القضايا التي تتبناها، غير أنها عقلية هشة، كلفت مجتمعاتنا وعبر الزمن ما لاتطاق أثمانه.

ومن أشد سمات هذه العقلية هشاشة قضية إزاحة المسؤولية عن كاهلها، واعتماد التبرير كاستراتيجيا لا بديل لها للتخلص من المسؤولية، والصاق التهم بالآخرين، والاستمرار في الهروب إلى الأمام.

وسنوجز أدلة عميقة الحضور في هذه العقلية دلالة على التجذر المخيف لهذه الاستراتيجيا:

١- تذكر الأسطورة أن إبليس تمكن من التسلل إلى الجنة لغواية آدم عبر جوف الأفعى. وبالتالي فالأفعى متآمرة لصالح إبليس، وآدم ليس مسؤولاً عن الخطأ .
٢- وهناك رواية تقول : أن حواء هي التي أغوت آدم، ليأكل التفاحة. وبالتالي فإن مسؤولية هذا الخطأ، تقع كلياً على حواء، ولا علاقة لآدم البريء بأي ذنب في مسألة الطرد من جهنم.

٣- تقول الروايات التاريخية أن كل الذين قتلوا الخلفاء الراشدين هم من اليهود والفرس، وبهذا تسقط مسؤولية المجتمع العربي عما حصل.

٤- منذ قرابة قرن والعرب يحملون أمريكا واسرائيل مسؤولية هزائمهم وتدهور أحوالهم.

٥- يرد حكام العرب أسباب ثورات الشعوب ضدهم إلى المؤامرات، وترجع الشعوب أسباب فشل ثوراتها إلى عمالة الحكام.
٦- وإذا ضعف الحاكم انتقم من الشعب، وإذا ضعف الأب صرخ في وجه زوجته وأطفاله.

لنرى بعدها أن المرأة والطفل هما أضعف حلقتين في المجتمع العربي.
كان أبي – رحمه الله – يعمل بناء، وكان أثناء العمل يشرد فيضرب يده، فإذا تألم شتم أمي أو شتمنا نحن الأبناء.
وهنا تحضرني بعضة مقولات تثبت أن قناعات المجتمع في لاوعيه تحتاج إلى العمل الجدي في تغير كثير من المفاهيم وآليات تناول الاسقاطات:
أ – قل لي من تعاشر أقول لك من أنت.
ب – الثوب برقعته.

ناهيك عن كل العبارات التي تلقي مسؤولية ما يحصل على الله والقضاء والقدر والطبيعة والكون.
خمسون عاماً لم أسمع عربياً اعترف بالخطأ.

غزا صدام حسين الكويت، وبغض النظر عن أسبابه، إلا أن العقلية العربية تبنت وبشكل محموم الدفاع اللاعقلاني عن خطئه، بأن الأمريكان ظللوه، والفرس خدعوه، والمعارضة تآمرت عليه، وأن إسرائيل تريد تدمير العراق!
ومن قبله أخطأ عبدالناصر في اليمن وسوريا ولم يعترف، وكذلك فعل الأسد في لبنان، وياسر عرفات في لبنان والأردن.
دون أن يقف واحد منهم معترفاً بخطئه أمام الناس.
ولا زال أتباعهم يعصمونهم عن الخطأ.

سبعون عاماً ونحن نستمع إلى خطابات ومقالات وتحليلات تشرح خبث الأعداء، ومساعيهم للفتك بالعرب.
دون أن نسمع تحليلاً واحداً في مَوَاطن خلل هؤلاء الحكام المعصومين، وتلك الشعوب المرسلة لخلاص العالم.

نعيش في بيئة لا تتحمل بتاتاً مسؤولية حروبها، ودمارها لأوطانها، فقرها، أو سوء اختياراتها، أو ضعفها، أو تخليها.

فالإسلاميون يؤمنون بأن الكفار هم سبب تشويه هذا الدين.
والآباء يعتقدون أن رفقة السوء هي التي أفسدت تربية أبنائهم.
والأمهات يؤمن أن المعلم يكره أبناءهن، ويتعمد ترسيبهم في المدارس.
والسنة يؤمنون بأن الشيعة هم سبب المشكلة، والشيعة يؤمنون أنه لا بد من استعادة معاوية حياً للاقتصاص منه بقطع رأسه.

وهنا تحضرني أسئلة: ما هي وظيفة العدو إن لم تكن تحطيم خصمه والقضاء عليه؟!
فلم الغوص في تحليل ممارسات العدو؟!
أليس الانشغال بدراسة سلوكيات العدو بهذا السخاء الشعبي هو هروب من مسؤوليات البحث في مواطن الخلل؟!
والتغطية على مواطن الضعف فينا، وغياب الخطط المطلوبة للخلاص؟!

العدو الوهمي آفة هذه العقلية، التي تبدع في صناعات العداوات الوهمية، بهدف التبرير.

تلك الفكرة التي تعمل على بناء كل التبريرات التي تمكن من التسويف والتأجيل والمماطلة وعدم المواجهة.
علمني عملي في التدريب أن التركيز على نقاط الضعف، لا ينبغي أن يكون على حساب نقاط القوة.
لذلك نرى وبشكل واضح كيف أن الواقع الفردي والجماعي في المنطقة كواقع قميص اللوكس الهش، الذي ما إن تهتز اسطوانة الغاز تحته حتى يهر، ويتساقط رماداً.

فمع أول ريح تحمل إشاعة يرتبك الفرد والجماعة ويبدأ التساقط.
ومع ظهور ابسط الحقائق داخل ما يسمى دول هذه المنطقة ينهار كل شيء فيها.
لا زال بوجعني مشهد سقوط العراق إثر سقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفروس في بغداد.
أيعقل أن ينهار وطن بكامله لانهيار تمثال حاكمه؟
وأية عقلية تلك التي تربط مصيرها بمصير تثمال حاكمها؟!
كل ذلك الواقع سببه أن الجميع يبرر للجميع اخطاءهم، والجميع يؤمن بفكرة المؤامرة، والجميع يقتنع بأنه مستهدف، وأن العالم يسعى لإزالته.
دون أن نشهد حتى اليوم وقفة واحدة حقيقية تجعل الاعتراف بالعجز سيد الواقع، لتكون محطة للانطلاق الصحيح.
لتظل عقلية الغالبية العظمى حبيسة التنور في هذه المجتمعات التي لا تريد التخلي عن أي من موروثاتها مهما بدت ركيكة، ومهما حوت من قيل وقال، وخيال غير ملهم، ومهما أثبت نظرية العدو الوهمي عدم فعاليتها.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى