تحت المجهر

راسبوتین العهد القوي (بقلم ع. يعرب صخر)

قبل الحرب العالمیة الأولى بعقدین، توفي القیصر الروسي “الكسي” وخلفه إبنه “نیقولاي الثاني”. اشتهر القیصر الجدید باللامبالاة وبعده عن الشعب الغارق في الفقر، ونزوعه نحو الترف واللهو والبذخ، وإیلاء مقالید الحكم لزوجته وثلة ارستقراطیین وجنرالات غیر مجربین.

أنجب على التوالي ثلاث أمیرات إلى أن ولد له أخیرا” ذكر أسماه “الكسي الثاني” كولي للعهد، لكن تبین أنه مصاب بالناعور أو السیلان ولن یعیش طویلا” وفق الأطباء حینها.

في هذا الوقت برزت إلى الواجهة شخصیة مثیرة للجدل، تجسدت في راهب سیبیري مشعوذ سكیر منبوذ ومطارد، لكنه ذو شخصیة قویة، فائق الذكاء، قوي البنیة، حاد الملامح، یتمتع بقدرة فائقة في قراءة النفوس واكتشاف نقاط ضعفها، وموهبة استثنائیة في استمالة الأشخاص وخداعهم وإیهامهم أن في یدیه الشفاء وأنه الصلة الروحیة بینهم وبین االله… إنه الحاقد الناقم “راسبوتین”، الذي سبقته سمعته إلى القصر، فاستدعاه القیصر وزوجته، المتعلقان بحبال الهواء، عله یشفي ولي العهد ألكسي من مرض الناعور، ویكون لهم ولیا” ومرشدا.

لم یطل الوقت حتى استطاع راسبوتین أن یسحر زوجة القیصر ویسیطر علیها وبالتالي یتحكم بالقیصر لأنه رهن بنان زوجته في كل شيء. أكثر من ذلك إستطاع أن ینفذ إلى مخادع سیدات الطبقة الارستقراطیة، فارضا” نفسه الحاضر الأول في حفلات المجون والشخصیة الأساسیة المقررة في القصر.

في هذا الوقت اشتدت النوائب على الناس وتمكن منهم الجوع والمرض وساءت أوضاع البلاد نتیجة الإهمال وتفشي الفساد واستحواذ فئة قلیلة من السیاسیین وأصحاب النفوذ على ثروات الدولة، في الوقت الذي كانت تتجه فیه الأمور نحو الحرب العالمیة الأولى، والقیصر وحاشیته لاهون عن إعداد الجیش استعدادا” الحرب. وكانت زوجة القیصر ومن ورائها العشیق راسبوتین یمنعان القیصر نیكولاي من إتخاذ أي قرار، إن بالتقرب نحو الناس الجائعة أو بالتجهز للحرب، ألتي ما إن اندلعت حتى قضى فیها ملیونان من الجیش الروسي الذي أتى متأخرا” إلیها، وخسرت روسیا لألمانیا والنمسا أراضي شاسعة.

نبت من رحم المعاناة الثورة البولشیفیة ١٩١٧ وبدأت تثور حملات التمرد والغضب والعصیان العام ما أدى إلى انشقاقات عامودیة وأفقیة، كان بنهایتها إنضمام الجیش للثورة واستحكام البولشیفیین بمقالید الأمور، ما أجبر القیصر على التنازل عن العرش. وقبل ذلك بقلیل كان القیصر وزوجته لا یزالان بفعل التأثیر الهائل لراسبوتین یعیشان حالة إنكار لكل ما یجري. تم اغتیال راسبوتین، وسیق القیصر وكل عائلته نحو النفي ثم لم یطل بهم الأمر إلا وتمت تصفیتهم جمیعا” بوحشیة وانتقام… وكانت تلك خاتمة القیاصرة الروس.

والآن، إذا قفزنا مئة عام للأمام ونظرنا إلى حال لبنان الیوم، ألا نرى الشبه الكبیر بین طغمة الحكم والمتحكمین عندنا بحاشیة القیصریة الروسیة في ذاك الزمان؟
ألا نرى الرئاسة المتخلیة وطاقم الحكم الرذیل متماهیة مع نیكولاي وما مضى في سالف العصر؟ ألیس حالنا في هذه الأیام كحال الروس الفقراء المعدمین الموبوئین آنذاك؟
ثم شخصیة راسبوتین الذي تعمدت سوق قصته، والذي قنص صنع القرار وصادر شخصیة القیصر وضاجع زوجات الحاشیة وسحر المسؤولین وزرع بطانته في الحكم.. ألیس هو تجسید لرأس المیلیشیا المتحكمة بجمهوریتنا؟
وهذه الجمهوریة، ألیست هي زوجة القیصر الممسك بتلابیبها راسبوتین عصرنا؟
واخیرا” طفل الناعور ولي العهد، ألیس هو إنعكاس لباسیل الرئیس؟

قبل فوات الأوان، إن لم یكن قد فات، اتعظوا من التاریخ وتواضعوا للتاریخ…ومهما بلغتم فأنتم قصار ولستم قیاصرة..
ولكن: إن في قصص الزمان عبرة، وفي القصاص حیاة…یا أولي الألباب.

العمید الركن المتقاعد یعرب صخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى