رأي حر

الاعتراف بالخطأ تربية، وليس فضيلة. (بقلم عمر سعيد)

الاعتراف بالخطأ تربية، وليس فضيلة.

ليس الجلوس على كرسي الاعتراف في الكنيسة مجرد محاولة لخلاص النفس من آثامها، بل إن في ذلك ما هو أبعد بكثير من الطقس الديني والسلوك الكنسي.

فالاعتراف بالخطأ ليس مجرد فضيلة يعتنقها البعض، ليتخلى عنها البعض الآخر على قاعدة حرية المعتنق.
بل إنه واحدة من أعظم أسس التربية التي تؤثر إيجابًا في بناء مجتمع، يعرف ما عليه من واجبات، وما له من حقوق.

ولقد تحدث الإسلام في أكثر من نص عن جهاد النفس واصفًا ذلك الجهاد بالأكبر.
والجهاد الأكبر لا يمكن أن يبدأ إلا من كرسي الاعتراف في الكنيسة وقوس المحكمة، والجلوس مع الذات والآخرين.
لما في ذلك من إقرار واع متعمد بأن المعترف يدرك، ويقر بأنه أخطأ، وقد أساء لنفسه وسواها،
وبهذا الإقرار يضع المرء نفسه تحت سقف مسؤولية التعويض على نفسه أو سواها عن كل ضرر تسبب به.

وهذه التربية ليست مزاجية، أو انتقائية، ليحدد المخطىء حجم الخطأ الذي يود الاقرار به، وبالتالي يقر بما يريد، ويخفي ما يريد.
وعبارة الله يرانا، ليست مجرد عبارة يتم تعليقها إلى الجدار خلفنا من خلال كتابتها على ورقة.
إنما هي تربية سلوكية، تتم ممارستها بشكل يومي وتفصيلي، وتتدرج لتصبح قاعدة الصدق التي تفصل في كل حق وباطل.
حين سئل أبا سفيان من قبل ملك الروم عن محمد، لم يكذب أبو سفيان في وصفه لمحمد، على الرغم من كراهيته لمحمد والإسلام.
فما الذي دفعه إلى ذلك الصدق؟
إنها التربية على الاعتراف.
والاعتراف ليس سلوكًا فرديا فقط، بل هو سلوك فردي يؤدي إلى ثقافة مجتمعية.

ما حصل في خلدة، وما يحصل في سواها، هو نتاج طبيعي لغياب ثقافة الاعتراف بالخطأ مجتمعيًا، وكذلك لغيابها على مستوى السلوك الفردي.
لذلك يأتى رد فعل المجتمع المثأور منه أو فيه رافضًا لفكرة دفع الثمن، ذلك لأن غياب هذه التربية، ألغى من مداركه معنى التعويض عن الخطأ أو إدانة النفس أو تحمل مسؤولية ممارساتها السيئة.

وهذا نهج يعتمده كثيرون من أصحاب القوة والنفوذ، بحيث يقومون بالقتل، والفساد، والتعديات، والتجاوزات، جماعات وأفرادًا، بشكل متعمد، يثبت في لاوعي بيئتهم بأنهم دائما على حق، ولا يمكن أن يخضعوا للمحاسبة، وليس من حق أحد مساءلتهم، مدعمين ذلك بنصوص مقدسة، تبيح لهم استباحة الآخرين، وتلغي حقوقهم.

وإذا تتبعنا الاعترافات بالأخطاء البارزة في التاريخ، نكتشف أنها تعود إلى التربية على ذلك، وليس للفضيلة والقيم فقط.
فالفضائل والقيم عناوين، لا تعطي ثمارها إلا إن ترجمت تربية وسلوكًا وأفعالًا.
فكم من حكومة ترفض الاعتراف بخطأ ما، ليس لأن قواعد الاشتباك السياسي تفرض ذلك، بل لأن الثقافة المجتمعية لا تتقبل ذلك، وقد يؤدي ذلك الاعتراف إلى زوال هيبة الحاكم وسقوطه.

وينتج عن غياب تربية الاعتراف كثير من المشاكل كالكذب، والاستغلال، والرشاوي، وشهادة الزور، وغيرها مما يؤدي إلى مجتمع الغابة الذي لا يحيا فيه إلا الأقوى.
لذلك نشهد الكثير من الاستقالات في حكومات غربية بعد حصول أبسط الأخطاء، فيما تغيب عنا في الشرق أبسط الاعترافات، مهما بلغ الأمر من مجازر وتنكيل.
فقد سقط العراق بسبب عدم اعتراف حكامه بأخطائهم، وكذلك حصل في ليبيا وسوريا واليمن.
بينما تمكنت حكومة أرمينيا من الاعتراف بعدم القدرة على الصمود في معركتها الأخيرة مع اذربيجان، وقامت بما يجنب شعبها ويلات الحرب ومآسيها.
إن جلوس الطفل إلى كرسي الاعتراف في الكنيسة، أولى خطوات سيره نحوى مجتمع أقل فسادًا وكذبًا وجريمة.
كذلك إن تربية النشأ على قواعد الاقرار والاعتراف، يمكن الأمم من احترام الحقوق والواجبات، ويعزز الديموقراطية في إدارة شؤونها.
ومآل كل الأحزاب والحكومات التي تغيب ثقافة الاعتراف إلى زوال، مهما طال مدى مدفعيتها.
ذلك لأن الحق لا يمكن أن يكون للقوة كما قال تيمورلانك، ونابليون وغيرهم.
فالحق لصاحبه، وما المعلق على صليبه عاريا إلا من حقه منذ قرابة الألفي سنة، إلا أكبر إدانة لكل الذين يرفضون الاعتراف بأخطائهم، وإن سادوا على الأرض كلها.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى