رأي حر

حكي تنور .. ” كنت بدي احكي، بس خفت يفهموني غلط” (بقلم عمر سعيد)

اعتاد أهل التنور على لقاءات تقطيع الفراغ، والتي يكون سيدها اللا شيء، فلا هدف، ولا برنامج عمل، ولا استنتاجات، ولا توصيات، تصدر عن لقاءات التنور.

لقاءات يظل اللت( كلمة تعني في الاساس طلي رغيف العجين بالطحين تجنبا لالتصاقه بسواه ” ويقصد بها هنا علك الكلام واجتراره)
والعجن فيها سيد الحضور.
واللت والعجن عبارتان تستخدمان لوصف كثرة الثرثة، والدوران حول فكرة واحدة لا غير.

فيستذكر المتحلقون حول فوهة التنور الدافيء كل شاردة وواردة، حصلت في القرية وإن منذ قرن..
وما الذي يشغلهم عن ذلك، وليس وراءهم غير قرض الوقت في تناول أخبار بعضهم البعض وبالسوء والتأويلات المرتبطة بتراكمات نفسية سببها تنافس العائلة والقبيلة؟!

وانسجاماً مع الشَّرطية، و كنتيجة لانفعال البعض في المواقف التي تتطلب حضوراً صريحاً، وصوتا جلياً، يعيش بعض المتحلقين اللحظة، فتتواصل رغبة استعادة الماضي، والنوادر، وتصبح الأحداث كما لو أنها تحصل للتو، فتحضر عبارة ” ليش ما قلت له كذا” ليجيب الآخر ” راحت عن بالي”، وينفعل آخر ليقول: ” قل له كذا وكذا، أكيد ما قلت له؛ ما بتعرفوش تحكوا ” إلى أن تصدر أخطر التصريحات التي هي محور مقالتنا:
– أنا كنت بدي قول، وقول، وقول، بس خفت يسيؤوا فهمي، وأنا ما بحب زعل حدا مني!

لتسقط قيمة الكلام الأخير كله.
فالحذر والخشية من سوء الفهم، ما هي إلا مجرد حجة للهروب من النتائج، لأنها في الأصل فرار من القول صراحة، ليس أقل.

وعلى رغم ادعاء مجتمعات التنور مناصرتها للحق، وادعاءها تبني العدالة، ورغم تشدقها وفي كل وقت بمقولة ” أعظم الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر”
إلا أنها هي النموذج الأوضح لمجتمعات عبيد السلطان الجائر، التي تستبدل الجهاد في وجهه بالجلوس على بابه، وقد مدت أكفها استجداء!

فالتنور لا ينتج ذات مؤكدة، لأنه مليء بالحكي الفارغ.
والذي هو ليس أكثر من اجترار لما يخشى الكثيرون قوله في اللحظة المناسبة والموقع الصحيح..
لذلك يقولون كتعويض عن تراكمات العجز والخوف في حلقاتهم الآمنة حول التنور، لأنها أكثر المناسبات التي تعفي المتكلم من مسؤوليته عن كلامه، فالحكي ” حكي تنور ”

لتصبح العبارة الشهيرة:
“كنت بدي، إحكي، بس خفت يفهموني غلط ”

والمهم في مجالس حكي التنور هي النوايا، لأن القيمة الأولى للنوايا، وما دام الباقي خبر لكان، فليقل الجميع كل ما في نواياهم قوله، ما دام لن يلي القول فعل يثمر تغييرا!
وكنتيجة لهذا الواقع النفس اجتماعي، تكثفت مواقف الخشية من إساءة الفهم، وصار كل مقال يساء فهمه.
ولشدة اتساع دائرة الخشية من إساءة الفهم، صار الجميع يعتقد أنه يفهم، ويربي أبناءه على ألا يقولوا ما في نيته من قول..
الأمر الذي جعل أغلب الفهم في مجتمعات التنور مجاملات وكذب ومحاباة، وحكي تنور

ولغياب الذات المؤكدة في مجتمع التنور مساوىء أكبر بكثير من خشية القول، فالذات غير المؤكدة تسترخص نفسها، ويصبح معها وجه المرء كمؤخرته، لا فرق بينهما، لذا انتشرت شهادة الزور والكذب والوسائلية على قاعدة
” إذا إلك عن الكلب مصلحة قل له يا سيدي”

لتصبح في مجتمعات حكي التنور الذات المؤكدة كريهة، تستفز الجميع، وتسبب النفور والاشمئزاز، ذلك لأنها ذات تستطيع أن تقول ولا تخشى، وتفعل ولا تنتظر، وتبادر ولا تتجنب،

ولأن بذار الذات المؤكدة هو النضج، والنضج ينتج عن عمق المعرفة، وعمق المعرفة تعززه كثرة التجارب، لذا تندر في مجتمعات حكي التنور نماذج الأفراد المدركين لدورهم في الحياة.
ذلك لأن تلك المجتمعات تتجنب المعرفة عن تعمد وإصرار، ولا تدخر لمحاربتها سبيلا.
لأنها تشترط الهوية المسبقة للمعرفة، والتي يجب أن تكون محصنة بموروث مقدس بغض النظر عن صلاحيته أو عدمها.
لتكثر فيه وبوفرة نماذج الأفراد الذين يدعون خشية القول، ويفضلون الصمت على أن يساء فهمهم.
ليستحق السؤال الملح:
وبالتالي من سيصحح للمدعي خطأه، ويقمع تبجحه، ويحد من سطوته؟!
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى