لبنان

أمطار بيروت الزجاجية. (بقلم عمر سعيد)

قبل أيام كتبت مقالة بعنوان :
” الغلاف أول الحياة وآخرها ”

كان ذلك قبل أن يحل خريف بيروت الزجاجي، الذي أسقط عنها كل ذاك الزجاج الغلاف.
وقد تنبه الناس إلى أن سماء بيروت تمطر زجاجها بغزارة غير معهودة.

تعرت بيروت في ٤ – ٨ – ٢٠٢٠، بعد أن اصفرت لعقود.
وقد كانت تحاول أن تبدع ربيعاً من شهور، أسمته ١٧ تشرين، لكنه رفض التخلي عن خريفيته، وأسقط عنها كل شيء.

يؤمن الفنان شوقي دلال ” أن اللون الأصفر أصل الحياة، وأن الخريف هو الولادة، وليس الربيع.. ”

وأنا من ورائه أقول في حذري : آمين !
دون أن أجرؤ على الصدح بها، لأن كثيراً من الزجاج قد تحطم.

لست أدري كيف تجرأ كثير من الناس على كنس ذلك الزجاج المتساقط ؟!

أما أنا فقد أصابني الهلع..
كيف سأكنس جلد مدينتيةالممزق، وأبيح عريها ؟!
كيف أستطيع أن أقتل في داخلي صورة ذلك الزجاج على النوافذ؟
يستر عجوزين غفيا على سلام الحب الذي جمعهما.
يحمي أطفالاً تركوا فوقه شفاههم، ونصوصهم الضبابية، ورسومهم التي تبخرت بعد الاشتعال.
يواري عشاقاً عراة، أحبوا المدينة من خلف زجاجهم الساتر.

ذلك لأن المشكلة في داخلي، لا في حطامه المكنوس، يخفي خلفه تفاصيل لم يرِد الناس إظهارها للعلن.

فكلما حاولت ترميم نافذة بما خلفته من زجاج محطم، لأعيد إليها انعكاسات أشعة شمس أيامها الخوالي، وأضواء لياليها الصاخبة، صدمتني بكثير من الحكايا والقصص التي تشظت مع ذلك الزجاج.
والحكايا و الزجاج كلاهما يستحيل ترميمه إذا تشظى.

لطالما لمحت في حياتي نوافذ، تماسكت على إطاراتها بكثير من اللواصق، وإن تنافرت ألوانها..
كنت أظن أن للأمر علاقة بتوفير المال أو نقصه في جيوب أصحابها، إلى أن أدركت معنى تشظي الزجاج، وتعري البيوت بعد غروب بيروت الذي حولها إلى فراغات للعتم والغبار والحزن والفقد والوجع والمجهول.

ولأني أجبن من ان أكنس الذكريات وحطامها، تخيلتني، أجمع حطام الزجاج في زوايا أحياء بيروت وساحاتها، وأقيم منه شواهد إبداع على تحطمنا هناك، وأوقفه تماثيل من كسور وانفصال ترفض الالتحام أو المغادرة.
ونثرته حصى في حدائقها، ومنعت دخول الزائرين إليها إلا حفاة .. وكلما سال دم الأقدام على حصاها المزجج اشتعلت في الزائرين لحظة التفجير التي جعلتنا فئتين من دماء ودموع.

قد يختفي ذلك الزجاج .. وقد يزول انكساره المفجع، لكنه سيظل في داخلي حاضراً، أعجز عن كنس بريقه الممزق بالكلمة والنغم والصمت ومحاولات الفرار، وستظل سماء بيروت جواتي تمطر زجاجا لا ينبت إلى الحزن أنى فررت منها.
عمر سعيد.
ملاحظة : استخدمت بعض العامية عن رغبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى