تحت المجهر

باسيل لـ”الحزب”: نهب أصول الدولة مقابل الغطاء للسلاح

علي نور الدين – المدن
يدرك باسيل جيّدًا الدور الذي لعبه تحالف تيّاره مع حزب الله منذ العام 2006، لجهة إعطاء سلاح الحزب الغطاء المسيحي المطلوب، في المرحلة التي تلت تكوّن المعسكر الرافض لهذا السلاح. ويدرك أكثر أنّ اهتمام الحزب بالحوار معه، في الملف الرئاسي، ينطلق من المشروعيّة المسيحيّة التي يمكن أن تعطيها أصوات باسيل للعهد المقبل، والذي يصرّ الحزب أن يكون من نصيب حليفه سليمان فرنجيّة. ذهب باسيل بعيدًا في سياسة “حافّة الهاوية” مع الحزب، وصولًا إلى التقاطع مع “عتاة السياديين” على مرشّح رئاسي واحد، في مواجهة مرشّح الثنائي الشيعي. وأخيرًا، جاءت لحظة التفاوض وفرض الشروط، والتي وضع لها باسيل عنوانين لا ثالث لهما: اللامركزيّة الإداريّة ومشروع الصندوق الائتماني.

ولمن لا يعرف الصندوق الائتماني، هو نفسه ذلك الذي فضّلت القوّات اللبنانيّة تسميته بصندوق “إدارة مؤسسات الدولة” في مشروع القانون الخاص بها، وهو ذلك الذي سمّته حركة أمل “الهيئة المستقلّة للمراقبة والإشراف” على الأصول العامّة. هو نفسه الفكرة التي تملك جمعيّة المصارف براءة اختراعها منذ العام 2020، حين طالبت بتحميل خسائرها للأصول العامّة، عبر صندوق يستحوذ على عائدات استثمار جميع هذه الأصول. هي الصفقة المغرية التي قدّمتها المصارف للأحزاب اللبنانيّة: تعفي المصارف أنفسها من عبء الخسائر، وتنعم الزعامات بصندوق يفتح باب وضع اليد على الأصول العامّة بالجملة. فعلتها المصارف، وباتت فكرتها موضع إجماع بين جميع القوى السياسيّة، ما يبشّر بهاوية سحيقة سيذهب إليها الاقتصاد اللبناني خلال العقد المقبل.

حين يتذاكى باسيل في طرح الفكرة
لباسيل طريقته في التذاكي عند تقديم أو تسويق الأمور، ومنها صندوقه الائتماني المنتظر. فحسب تغريدات باسيل، هناك بعض “البنكرجيّة وأصحاب المنظومة والماليين” الذين يريدون بيع أصول الدولة، لتسديد الودائع. لكنّ مشروعه الحريص هو العكس تمامًا. مشروعه هو حماية أملاك الدولة من “الجشع والطمع والسرقة”، عبر الحفاظ على ملكيّة الدولة لهذه الأملاك ضمن “الصندوق الائتماني”، ومن ثم استثمارها من قبل القطاع الخاص، ورد أموال الودائع من أرباح العمليّة. بهذا الشكل -الذي يستخف بعقل أي متابع ملم بالموضوع- يحاول باسيل تسويق فكرته، التي لا تختلف عن مشروع “البنكرجيّة” أو أمل أو القوّات بشيء، باستثناء رغبته بوضع اليد على الصندوق، قبل أن تضع قوّة أخرى يدها عليه.

فبخلاف ما يقوله باسيل في تغريدته، لم تطلب جمعيّة المصارف أو “البنكرجيّة” (ومنهم من هو محسوب عليه بالمناسبة)، ولا من يسميهم قوى المنظومة، بيع أصول الدولة فورًا. فهؤلاء أكثر من يدرك أنّ عمليّة من هذا النوع لن تأتي للدولة سوى بالفتات، وخصوصًا في ظل الانهيار القائم اليوم. وبذلك، لن ينتج عن هذه العمليّة سوى سداد جزء يسير جدًا من الودائع، وبما لا يتخطّى الـ13% من إجمالي قيمتها حسب بعض الدراسات، ما سيبقي القطاع المصرفي في حالة التعثّر القائمة.

مشروع المصارف، هو العكس تمامًا: إعفاؤها من إلتزاماتها لصالح المودعين، مقابل تحويل هذه الودائع لتصبح إلتزامًا على “صندوق” ما، على أن يختص الصندوق باستيعاب الأصول العامّة واستثمارها على المدى البعيد، عبر إعطاء رخص تشغيل واستثمار هذه المرافق للقطاع الخاص. بهذا الشكل، تتخلّص المصارف من كتلة الخسائر التي تثقل كاهلها، وتنفتح للطبقة السياسيّة اللبنانيّة جنّة من صفقات الشراكة مع القطاع الخاص، كتلك التي خبرها اللبنانيون في قطاعات البريد والخليوي والمطامر والكهرباء وغيرها.

في خلاصة الأمر، ما يطرحه باسيل لا يختلف عن ما هو مطروح من قبل معظم القوى السياسيّة، ولا يختلف حتمًا عن مشروع “البنكرجيّة”، كما سماهم في تغريدته. ما يطرحه باسيل هو تحديدًا الوجهة التي يذهب باتجاهها كل هؤلاء، فيما يندفع باسيل للتفاوض على هويّة الطرف الذي سيضع يده على هذا الصندوق. مع الإشارة إلى أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كان قد انصاع لضغوط لوبي المصارف، عبر استحداث فكرة “صندوق استرداد الودائع” ضمن خطّة حكومته، والتي تذهب باتجاه تحميل المال العام كلفة ردم فجوة خسائر المصارف.

في النتيجة، وعلى المدى البعيد، لن يثمر الصندوق عن سداد ولو جزء يسير الودائع، خصوصًا أنّ تطبيق هذا المقترح سيعني الإجهاز على أي إمكانيّة لتحقيق النمو الاقتصادي في المستقبل. لكن الصفقة ستكون قد مرّت: تخليص المصارف من خسائرها، وطرح الأصول والمرافق العامّة على مذبح صفقات التحاصص الشاملة، كتلك التي عقدها باسيل ذات يوم مع الحريري في بداية عهد الرئيس ميشال عون.

حجج ضعيفة وتداعيات كارثيّة
يسوّق باسيل مقترحه من بوّابه مقاربة “فشل الدولة في إدارة مواردها”، ما يحتّم إنشاء الصندوق لتمكين القطاع الخاص من استثمار المرافق العامّة.

المشكلة الأولى في هذه الحجّة، هي أنّ القوانين الموجودة أساسًا تحتّم إنشاء الهيئات الناظمة في بعض هذه القطاعات، مثل الكهرباء والاتصالات، كما تعطي كل هيئة صلاحيّة تحديد نوع الاستثمار المطلوب، سواء بالشراكة مع القطاع الخاص أو من دونها. وفكرة الهيئات الناظمة، قامت أساسًا لخلق استقلاليّة تسمح لأصحاب الخبرة بإدارة القطاعات العامّة، بأفضل أدوات ممكنة، من دون التأثّر بالضغوط أو الصفقات السياسيّة. أما بالنسبة لبعض القطاعات الأخرى، فقانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص واضح، وكذلك قانون الشراء العام.

باختصار، المطلوب هو تطبيق القانون وتعيين الهيئات الناظمة، مع فتح الباب أمام الشراكة الشفّافة والنزيهة مع القطاع الخاص، بدل خلق صناديق جديدة، من النوع الذي يطالب به باسيل، خصوصًا أنّ صندوقاً من هذا النوع سيفتح باب التحاصص السياسي الشره بالجملة، بدل إدارة كل قطاع وفق خصوصيّته التقنيّة والاقتصاديّة كما تنص القوانين الحاليّة. وفي جميع الحالات، يمتلك اللبنانيون تجربتهم المرّة مع فكرة الصناديق التي تلي أنشأتها الصفقات السياسيّة الشاملة، كتلك التي نبتت بعد انتهاء الحرب مثلًا، والتي تشبه الصندوق الذي يطلب باسيل استحداثه، على هامش الصفقة الرئاسيّة.

المشكلة الثانية، تكمن في أنّ باسيل يتجاهل المشكلة الأساسيّة في هذا الصندوق، وهي غاية استعمال المال العام الذي سينتج عن استثمار المرافق العامّة، والذي سيذهب لسداد خسائر المصارف. بهذا المعنى، النقاش الأهم بخصوص الصندوق لا يتمحور حول جدوى الشراكة مع القطاع الخاص، والتي يوجد لها أطرها القانونيّة أصلًا، بل في فكرة استعمال المال العام لإطفاء الخسائر المصرفيّة وإعفاء المصارف من التزاماتها للمودعين.

تداعيات اللجوء إلى هذه الفكرة واضحة. ففي الوقت الذي تقفل فيه الإدارات والمدارس الرسميّة والمرافق العامّة لغياب التمويل، يأتي باسيل ليتبنّى الطرح الذي سيحرم الدولة من ما تبقّى من رسومها وإيراداتها، والتي يفترض أن تُخصص للنهوض بالاقتصاد المحلّي والبنية التحتيّة وشبكات الحماية الاجتماعيّة وغيرها.

وفي المقابل، سيعني هذا الطرح تطبيق مبدأ “عفا الله عن ما مضى”، عبر تجاهل كل أسباب تراكم الخسائر المصرفيّة، ورمي هذه الخسائر في أحضان الدولة والشعب اللبنانيين. وأخيرًا، لن يعني هذا الخيار سوى الإطاحة بحقوق المودعين، بعد ربطها بصندوق لن يؤمّن سوى الفتات مقارنة بحجم الخسائر الموجودة أصلاً.

براغماتيًا، سيؤدّي هذا المخطط إلى الإطاحة بالتفاهم مع صندوق النقد الدولي، الذي وضع فيتو (ولأسباب محقة جدًا للأمانة) على هذه الفكرة. فالصندوق سيرفض منح توقيعه على برنامج مالي مشبوه ومحكوم بالفشل، على مستوى إعادة الإنتظام للماليّة العامّة وإنعاش الاقتصاد المحلّي. كما ستفتح الفكرة نار جهنّم، في تفاوض لبنان مع دائنيه الأجانب، الذين سيرفضون حتمًا إعادة هيكلة ديونهم، المترتبة على دولة ستتخلّى عن إيراداتها العامّة، لتسديد إلتزامات خسائر قطاع خاص.

أمّا الأهم، فهو أنّ استقالة الدولة من دورها في إنعاش الاقتصاد المحلّي، وتخصيص إيراداتها لعقود من الزمن لتمويل صندوق من هذا النوع، سيعني الإجهاز على أي أمل بتحقيق تصحيح مالي حقيقي على المدى البعيد. وبمجرّد خلق هذا الصندوق، ستكون الدولة قد زادت على دينها العام ما تقارب قيمته 365% من حجم الناتج المحلّي، ما سيضرب أي محاولة لإعادة الدين إلى مستويات مستدامة.

ما يطرحه باسيل هنا هو انسجام مطلق مع منطق “البنكرجيّة”، الذين يصوّب عليهم شكليًا. منطق “البنكرجيّة” وباسيل يرفض الإنطلاق من مبدأ المكاشفة والمحاسبة والمساءلة، لتحديد الخسائر وفهم مصدرها، ومن ثم معالجتها على هذا الأساس. وهو منطق يرفض الفكرة البديهيّة، التي تقضي بشطب رساميل المصارف، وأرباح المستفيدين من سياسات المراحل السابقة، قبل تحميل الخسائر لأي طرف آخر. وهو منطق يرفض فكرة حماية المال العام كمبدأ، فيما يستسهل إطلاق فكرة شعبويّة وخطيرة مثل “تحميل الدولة (أي نحن، دافعي الضرائب ورسوم المرافق العامّة) مسؤوليّة رد الودائع”.

بعد تقرير التدقيق الجنائي الأخير، هل ثمّة عاقل يعتقد أن الشعب اللبناني بأسره يفترض أن يتحمّل مسؤوليّة ردم فجوة خسائر، تقارب قيمتها 3.65 مرّات حجم الاقتصاد المحلي بأسره؟ وهل يدرك من يطرح هذا الخيار نوعيّة التداعيّات التي سيحملّها للمجتمع اللبناني؟ ولأجل من؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى