رأي حر

لي وجه أبي / عمر سعيد

الكتابة لي كذاك البستان الّذي كان لأبي.

لم أكن أعلم بعدُ الغايةَ ممّا كان يفعل كلّما دخلناه. أراه قد صفع التّراب بكفّيه، ثمّ مسح وجهه وساعديه، وأستدارَ شطر القِبلة، وبدأ الصّلاة.

كنت أجلس أراقبه، وأنكأ بعودة كتف التّراب تحت كوعي.
تذكرت بأنّه لم يأمرني يومًا بالصّلاة، لكنّه أمرني بالكاتبة مرّات.

صرت أَلْحَظُ بالخبرة، أنّ وجهه أثناء ذلك، ليس هو وجهُه قبل أو بعدها.
إذا كان يتسع، وتنتشر عليه أثار الحبّ والفرح، وقد اختفت عقدة جبينه القاسية الّتي ألفتها تلازم حاجبيه.

كان يطيل سجوده، وكنت أطيل صمتي أمام خشوعه.

ذات يوم سألته: لماذا تصلّي، كلّما أتينا إلى الحقل؟!
قبض بكفّه على كمشة تراب، وقال: أُكرِمُه فيُكْرِمُني، ثمّ تركها تنساب، كساعة رمل.
ثمّ سألته: لماذا لا تصلّي عندما تبدأ عملك اليومي كبنّاء؟!
فأجاب: لا أحبّ المسامير، وأنا أغرزها في صدر الخشب!
قلت: ولكنّك تغرز المعول في صدر التّراب؟!
قال: أحرّره بحرثه!

كبرت وعرفت أنّ الكتابة تربتي المقدّسة، وأنّ خشوعي فوق سجّادة النّص؛ يعطي لوجهي ملامح أبي فوق سجّادة حقله.
هذا ما أخبرني به ولدي الصّغير يومًا، إذ قال ببساطة: ” تبدو حلوًا وأنت تكتب!”

أفقت على موروث لم أتنّبه إليه من قبل، وإن اختلفت التّربة.

كان أبي يصلّي في كلّ مرات دخول بستانه، حتّى في أيّام تقليم الأشجار، وحرق ألأعشاب والأوراق، الّتي كان يفتنني مشهد اشتعالها، وتقاطر دخانها إلى السّماء.
ولكم لففت ذلك الدّخان على جسدي، وتعلّقت به، وصعدت معه إلى الأعلى. فبقيت هناك حتّى اكتشفت أنّي صرت غيومًا، تتهاطل نصوصًا فوق حقول من ورق.

ما عدت زرت بستان أبي، لكنّي لا زلت أنتظره ليتمّ صلاته، وأكتب وأنا أرجوه في سرّي أن يطيل خشوعه، لئلّا أخلع وجهي الذي أحبّه ولدي الصّغير.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى