من هنا وهناك

على مشارف آواخر الأبوّة/ بقلم عمر سعيد

لم استطع أن أقدّم لوالديّ ما تمنّيت، فلم أقدر أن أعطيهما المال الّذي يقيهما شرّ الحاجة، ولا الطّعام الكافي، ولا بيتًا أو سيارة.
وهذا يعذبني جدًّا، ولا يعينني على تحمّله، إلّا فراري صوب الكتابة، لذا كتبت، وأكتب عنهما، لعلّهما يلتقيان بمن قرأ ما كتبت، فيخبرهما بذلك.

أريد أن يعرفا أنّي كبرت وجدًّا في ملامحي، وقد يصعب عليهما التّعرف عليّ إن التقينا صدفة.
غير أنّي أريد أن يعلمهما أحد أنّي ما زلت أذكر أنّهما ساعداني كثيرًا.

أريد أن أخبرهما: أنّي أيّ نعم لم أكن وسيمًا، ولم أمتلك عيونًا زرقاء واسعة، ولا شعرًا أشقر ناعمًا، وإنّي على الرّغم من أنّي كنت أقلّ من فتى عادي، ولا أملك أيّة جاذبية، ورغم صِغَرِ عينيّ البنّيّتين، الّتي كان صديقي البدوي مدرّس اللّغة العربيّة طارق العوّاد ابن الرّقة كلّما رآني يقول ضاحكًا:     ” يا ول عيونك مثل قظاظة فروة الرّاعي”.

وبالرّغم من شعري الأجعد الأشيب، وسمار وجهي الباهت، وبالرّغم من حاجبي الضّئيلين، وعلى الرّغم من كافة عيوبي الفكريّة والمعرفيّة والنّفسيّة والأخلاقيّة، لا زلت اشتاقهما، وأحنّ إلى زمن أشعرتني أمّي فيه أنّي أجمل فرسان أحلام الفتيات، واعتَقدَ أبي فيه أنّي المتعلّم الأوّل في مجتمعي، دون أن ينسى حين يغضب أنّي مجرّد صبيّ، فيوبّخني، ويضربني، وقد تجاوزت الخامسة والأربعين.

أريد أن يرجعا لساعة فقط، فأخبر أبي أنّي بدأت أقلّم أغصان العريشة، وما كنت أتقن ذلك في حياته، وأحكي لأمّي أنّي صرت أكنس الدّار بعد رحيل ربيعة، وأملأ الخزّان بالماء.

أريد أن يعرفا أني قد صرت أبًا على مشارف آواخر الأبوة.
غير أنّي ما مللت تخيّلهما في الأركان والزّوايا، ولكم أفقت على صوتيهما، وقد دقا الباب للدّخول.

أريد أن أخبرهما أنّي ما عدت أطيق السّفر والبعد عن أماكن؛ تركا فيها كثيرًا ممّا لم أتنبّه إليه من قبل، وأني صرت أحزن بسرعة، وأبكي بسرعة، وأغفو بسرعة، لكن دون أحلام.
ولكنّي لا زلت عاجزًا عن أبوّة إخوتي وأخواتي، فهذا أكبر ممّا أعرف بكثير.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى