لبنان

العونيّة السياسيّة: فالج لا تعالج!

يقول ميشال دي سرفانتس، كاتب رواية “دون كيشوت”، لمصارع الطواحين على لسان دون غريغوري “تذكري أيتها الروح البسيطة، لا شيء أكثر قسوة من المنطق”. أما نحن فنضيف بعد تجربتنا مع العونيّة السياسية: لا شيء أكثر قسوة من الحقيقة.

جزء كبير من المسيحيين يعيشون معلّقين بين الحياة والموت، بين النطق والخرس، موس الغضب تحزّ في الحلق ولا تقتل. فلطالما نشأ العقل المسيحي في لبنان على مفهوم الدولة، حامية المسيحيين والمسلمين، ضامنة العيش المشترك والحرية والكرامة والسيادة.

دفع المسيحيون ثمن استمرار الدولة آلاف الشهداء من أبنائهم وأرزاقهم وبيوتهم. كان هاجسهم دائماً الحؤول دون سقوط الوطن بين مخالب الاحتلالات والأطماع الخارجية والمشاريع الاقليمية.

منذ العام 1988 كل شيء تخربط، إذ أطل العماد ميشال عون من شرفة قصر بعبدا ليطالب بتحرير لبنان من الاحتلالات وبالحرية والكرامة الوطنية والدولة القوية وحصريّة السلاح بإمرة الجيش اللبناني، لكن بعد عودته من منفاه في فرنسا عام 2005، بدا أن ثمة أشياء تغيّرت في لهجة “الجنرال”، وسرعان ما تبين أنه انقلب على مفاهيم الدولة القوية من خلال ورقة تفاهم مع “حزب الله” تم توقيعها في كنيسة مار مخايل، متحالفاً مع الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة!

التبس الأمر في عقول الكثير من المسيحيين إلا أن الجمهور العوني وقع فريسة أضاليل لا تمت بصلة إلى الثوابت المسيحية التي توارثها الوجدان المسيحي من الأجداد الذين دافعوا عن وجودهم وحريتهم في هذه الأرض حتى آخر نقطة دم. هكذا وُلِدَ لبنان الحرية والاستقلال والعنفوان الذي لا ينسجم في علاقاته الخارجية الاّ مع دول العالم الحر التي تحترم حقوق الانسان وكرامته، لا الدول الظلاميّة التي لا تزال تعتمد الديكتاتورية والأحادية في ممارستها للسلطة والحكم.

هؤلاء مناصرون “عونيون” طيّبون صدّقوا شعارات وأفكاراً سياسية وهميّة، وانساقوا بتوجيه تضليليّ مبرمج من مسؤوليهم، ولأسباب تتعلّق بشهوة السلطة فحسب، إلى نوع من الذميّة غير المقبولة، تجلّت بأبشع صورها في مخيّم رياض الصلح، عندما انبرت مجموعة من الشابات والشبّان المسيحيين إلى رفع قبضاتهم هاتفين وراء الشيخ نعيم قاسم: “الموت لأميركا”!.

قد يكون العماد ميشال عون وصهره جبران باسيل داهيتين من الدواهي، إذ لم يشهد التاريخ السياسي الحديث للمسيحيين في لبنان رجلاً تعاطى الشأن العام، وتقلّب في مواقفه على هذا النحو، وبقي له مناصرون، بفضل خطابه الشعبوي والتصويب على الآخرين وحبك الخطط لإلغاء هذا أو ذاك.

والعجيب أن مدمني شخصي الرئيس عون وباسيل يعتبرون أن كل ما يقولانه ويفعلانه مقدّس، ويجدان له مبرراً حتى ولو كانوا غير مدركين خلفياته وتفاصيله وعواقبه. يُطلقون على من يؤيد خياراتهما وتحالفاتهما وعداواتهما وصداقاتهما صفة الوطني بامتياز، ومن يعارضهما وينتقدهما هو خائن وعميل ومرتش “ومع قوات جعجع وعم يقبض من الحريري، أو سارق أجراس الكنائس في المختارة”.

“العونيّون هم فئات تجمّعت لأنها تكره إمّا بيت الحريري، وإمّا البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير، وإمّا سمير جعجع، أو غيرهم”، هذا ما قاله السفير جوني عبدو في احدى مقابلاته مع الإعلامي وليد عبود، وفي هذا القول الكثير من الحقيقة.

وعن الطروحات والبرامج والتحالفات والصدق والشفافية، لسنا بحاجة إلى التحليل، ويكفي عرض أبرز مواقف عون ما قبل وما بعد التي تلخّص سيرته منذ تسلّمه سلطة الحكومة الانتقالية عام 1988 وحتى اليوم، وهي كافية لإستخلاص العبر والأهداف: “إنني عسكري، وبهذه الصفة فانني أتمنى أن يعتبرني القائد الكبير حافظ الأسد ضابطاً صغيراً في جيشه”، رسالة وجّهها العماد عون إلى رئيس سوريا حافظ الأسد، يوم كان قائداً للجيش اللبناني، و”سأكَسّر رأس حافظ الأسد وأخلخل المسمار السوري حتى ولَو اقتضى ذلكَ استعمال سكينِ المطبخِ”. في 13 تشرين الأول 1990، اجتاح الجيش السوري المنطقة الحرة وانتقل العماد عون الى السفارة الفرنسية وقرأ بياناً قال فيه: “منعاً لإراقة الدماء وإنقاذاً لما تبقّى أدعوكم إلى تلقي الأوامر العسكرية من العماد إميل لحود”.

العماد ميشال عون: “هناك قرار دولي بإلغائه، حزب الله مصنّف إرهابياً، وهو الثاني على اللائحة بعد القاعدة، وعلى هذا فإن حياته لم تعد طويلة بهذا الاتجاه، ومعادلته أكبر من المعادلة اللبنانية، لديه التزامات متعدّدة”.

العماد ميشال عون في 28 تموز 2008: “نرفض أن يوصف حزب الله بالإرهابي، فهذا الأمر مرفوض على الأرض اللبنانية، مرفوض منا على الأقل. حزب الله مقاومة شريفة على الأرض اللبنانية”.

العماد عون في الكونغرس الأميركي بتاريخ 17 ايلول 2003: “النظام السوري قام على النار والدم، هناك عشرات آلاف القتلى قتلهم النظام في سوريا حتى تمكّن من تثبيت نفسه (…). إن الأنظمة الديكتاتورية هي السبب في الأصولية، من يتستّر على الأنظمة الدكتاتورية بحجّة أن الخطر أصوليّ أحمق”…

العماد ميشال عون: “لا يمكننا بعقلانية ومنطق الفصل بين النظام السوري والارهاب، فسوريا تؤمّن الملاذ لعدد كبير من المنظمات الارهابية، وهي توجّه أعمالها، وتستعمل لبنان كموقع أساس لتدريبها ولعملياتها”.

العماد عون في 2 تشرين الثاني 2012: “العالم الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، هو من شجّع الأصولية”.

العماد عون في 26 نيسان 2012: “إنّ أحداً لن يكون رابحاً في حال سقط النظام السوري، وسقوط النظام سيكون بمثابة سقوط للديموقراطية”.

عون حرم الرئيس ميشال سليمان من أن يكون لديه وزراء، وعندما صار رئيساً عطّل حكومات للحصول على وزراء له، ولا يزال العونيون يصفقون!. وعلى الرغم من أن عون كان قائداً للجيش تساءل بعد اغتيال الضابط سامر حنا من “حزب الله” ماذا ذهب ليفعل في سجد؟ ولا يزال العونيون يصفقون!

ومسألة التناقضات مستمرة حتى اليوم مع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، فهو وصف رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ”البلطجي” واتهم “القوات اللبنانية” باتفاقيات تحت الطاولة مع حركة “أمل”، إلا أنه في موسم انتخابات 2022 تحالف مع “أمل” وفاز بمقاعد نيابية بسبب هذا التحالف!. والمفارقة أن باسيل ووزراء محسوبين عليه استلموا وزراة الطاقة طوال ١٥ سنة على الأقل، والنتيجة صفر ساعة كهرباء، والعونيون لا يزالوا يصفقون، بل في الانتخابات الأخيرة انتخبوا ثلاثة من وزراء العتمة ليمثلوهم!. العونية السياسية كادت أن تحرق البلد ليصل مؤسسها إلى الرئاسة، وعندما وصل قال: “ما خلوني”، ولا يزال العونيون يصفقون!. عون وباسيل ادعيا محاربة الفساد وتحالفا مع الفاسدين ولا يزال العونيون يصفقون!، واللائحة تطول!

في المنطق العلمي والسياسي لا تحتاج هذه المواقف إلى شرح، انما تعبّر عن نفسها وعن طبيعة أصحابها الذين يدافعون حتماً عن طروحاتهم المتناقضة ويجدون دائماً مبرراً لها، لكن بعيداً عن التبعيّة الشخصانيّة على الطريقة اللبنانية الفولكلورية، وبعيداً عن الشعبويّة الانفعاليّة، تُرى كيف يستوعب عاقل تلك التقلّبات الحادة؟ ألا تثير تساؤلات وتطرح استفهامات حول صدقيّة الطروحات السياسية للزعيم الذي يتبعه؟

لذلك، آن الآوان للبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً أن يستيقظوا، وأن يعوا الواقع والحقيقة. آن الأوان للاستفاقة من الغيبوبة الهذيانيّة، لا انتقاماً ولا تغليباً لأيّ حزب على آخر، بل الهدف تعميم ما يُعرف بثقافة المحاسبة.

يجب وقف مسيرة الانحدار الدراماتيكيّة التي يشهدها وطن الأرز واللبن والبخور، وطن القديسين، وطن الكبار مثل جبران خليل جبران وشارل مالك والبطريرك الياس الحويك وحسن كامل الصباح وحميد فرنجية وشارل حلو ورياض الصلح وخليل تقي الدين وفيليب حتي وأمين الريحاني وكاظم الصلح ويوسف السودا وغسان تويني وفيليب تقلا وسليم حيدر وسعيد عقل، مروراً بالبطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وصولاً إلى رئيس الشهداء الشيخ بشير الجميل والشهيد الكبير رفيق الحريري وشهداء ثورة الأرز وعشرات قدّموا أرواحهم على مذبح الحرية، ليبقى لبنان.

ان أمة عرفت جوهر الخالق دياناتها، ورصّع جمال الكون أرزاتها، ووشّح حملة الصولجان أرجوانها، لهي جديرة بأن تُستكمل… بفكر أبنائها ودماء شهدائها.

هل يشبه وطن الحرية والحضارة الذي ترعرعنا على مفهومه، الوطن الذي يبشّرنا به النائب جبران باسيل وهو وطن اللااستقرار في كنف “حزب الله” المستجيب دائماً لمخططات وليّ الفقيه في الجمهورية الاسلامية الايرانية على حساب استقرار الدولة اللبنانية؟

فلنجدد وجودنا وحريتنا وفكرنا، ولنستعد أنفسنا لنستعيد انتماءنا إلى العالم!

جورج حايك – موقع لبنان الكبير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى